فصل: باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابًا

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: القول المفيد على كتاب التوحيد **


باب من أطاع العلماء والأمراء في تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرمه فقد اتخذهم أربابًا

قوله‏:‏ ‏"‏من أطاع العلماء‏"‏‏.‏ ‏"‏من‏"‏ يحتمل أن تكون شرطية، بدليل قوله‏:‏ ‏"‏ فقد اتخذهم ‏"‏، لأنها جواب الشرط، ويحتمل أن تكون موصولة، أي‏:‏ ‏"‏باب الذي أطاع العلماء ‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فقد أتخذهم ‏"‏‏.‏ خبر المبتدأ، وقرنت بالفاء، لأن الاسم الموصول كالشرط في العموم، وعلى الأول تقرأ ‏"‏ بابٌ ‏"‏ بالتنوين، وعلى الثاني بدون تنوين، والأول أحسن‏.‏

والمراد بالعلماء‏:‏ العلماء بشرع الله، وبالأمراء‏:‏ أولو الأمر المنفذون له، وهذان الصنفان هم المذكوران في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏؛ فجعل الله طاعة مستقلة، وطاعة رسوله مستقلة، وطاعة أولي الأمر تابعة، ولهذا لم يكرر الفعل ‏(‏أطيعوا‏)‏، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق‏.‏

وأولو الأمر هم أولو الشأن، وهم العلماء، لأنه يستند إليهم في أمر الشرع والعلم به، والأمراء، لأنه يستند إليهم في تنفيذ الشرع وإمضائه، وإذا استقام العلماء والأمراء استقامت الأمور، وبفسادهم تفسد الأمور، لأن العلماء أهل الإرشاد والدلالة، والأمراء أهل الإلزام والتنفيذ‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏في تحريم ما أحل الله‏)‏‏.‏ أي في جَعْله حرامًا؛ أي‏:‏ عقيدة أو عملًا‏.‏

‏(‏أو تحليل ما حرم الله‏)‏‏.‏ أي‏:‏ في جعله حلالًا عقيدة أو عملًا، فتحريم ما أحل الله لا ينقص درجة في الإثم عن تحليل ما حرم الله، وكثير من ذوي الغيرة من الناس تجدهم يميلون إلى تحريم ما أحل الله أكثر من تحليل الحرام، بعكس المتهاونين، وكلاهما خطأ، ومع ذلك، فإن تحليل الحرام فيما الأصل فيه الحل أهون من تحريم الحلال، لأن تحليل الحرام إذا لم يتبين تحريمه فهو مبني على الأصل وهو الحل ورحمة الله ? سبحانه ? سبقت غضبه؛ فلا يمكن أن نحرم إلا ما تبين تحريمه، ولأنه أضيق وأشد، والأصل أن تبقى الأمور على الحل والسعة حتى يتبين التحريم‏.‏

أما في العبادات فيشدد، لأن الأصل المنع والتحريم حتى يبينه الشرع كما قيل‏:‏

والأصل في الأشياء حل ** وامنع عبادة إلا بإذن الشارع

قوله‏:‏ ‏"‏ أربابًا ‏"‏‏.‏ جمع رب، وهو المتصرف المالك‏.‏

والتصرف نوعان‏:‏ تصرف قدري، وتصرف شرعي‏.‏

فمن أطاع العلماء في مخالفة أمر الله ورسوله، فقد اتخذهم أربابًا من دون الله باعتبار التصرف الشرعي، لأنه اعتبرهم مشرعين وأعتبر تشريعهم شرعًا يعمل به، وبالعكس الأمراء‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ‏"‏يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتقولون‏:‏ قال أبو بكر وعمر‏؟‏ ‏!‏ ‏"‏

قول ابن عباس‏:‏ ‏"‏حجارة من السماء‏"‏‏.‏ أي‏:‏ من فوق تنزل عليكم عقوبة لكم، ونزول الحجارة من السماء ليس بالأمر المستحيل، بل هو ممكن، قال تعالى في أصحاب الفيل‏:‏ ‏{‏وأرسل عليهم طيرًا أبابيل * ترميهم بحجارة من سجيل‏}‏ ‏[‏الفيل‏:‏ 3، 4‏]‏ وقال تعالى في قوم لوط‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا عليهم حاصبًا إلا آل لوط نجيناهم بسحر‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 34‏]‏‏.‏

والحاصب‏:‏ الحجارة تحصبهم من السماء‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ أقول‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتقولون‏:‏ قال أبو بكر عمر‏؟‏ ‏!‏ ‏"‏‏.‏ أبو بكر وعمر أفضل هذه الأمة وأقربها إلى الصواب، قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏:‏ ‏(‏إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا‏)‏‏.‏ رواه مسلم ‏(‏2‏)‏، وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أنه قال‏:‏ ‏(‏أقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر‏)‏ ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجد‏)‏ ، ولم يعرف عن أبي بكر أنه خالف نصًا في رأيه، فإذا كان قول أبي بكر وعمر إذا عارض الإنسان بقولهما قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فإنه يوشك أن تنزل عليه حجارة من السماء، فما بالك بمن يعارض قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بمن هو دون أبي بكر عمر‏؟‏ ‏!‏ والفرق بين ذلك كما بين السماء و الأرض، فيكون هذا أقرب للعقوبة‏.‏

وفي الأثر التحذير عن التقليد الأعمى والتعصب المذهبي الذي ليس مبنيًا على أساس سليم‏.‏

وبعض الناس يرتكب خطأ فاحشًا إذا قيل له‏:‏ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال‏:‏ لكن في الكتاب الفلاني كذا وكذا، فعليه أن يتقي الله الذي قال في كتابه‏:‏ ‏{‏ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 65‏]‏، ولم يقل ماذا أجبتم فلانًا وفلانًا، أما صاحب الكتاب، فإنه إن علم أنه يحب الخير ويريد الحق، فإنه يدعي له بالمغفرة والرحمة إذا أخطأ، ولا يقال‏:‏ إنه معصوم، يعارض بقوله قول الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ‏.‏

وقال أحمد بن حنبل‏:‏ ‏"‏ عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏، أتدري ما الفتنة‏؟‏ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله أن يقع في قبله شيء من الزيغ فيهلك‏"‏ ‏.‏

قول أحمد رحمه الله‏:‏ ‏"‏عجبت ‏"‏‏.‏ العجب نوعان‏:‏

الأول‏:‏ عجب استحسان، كما في حديث عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ كان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه التيمن في شأنه كله‏:‏ في طهوره، وترجله، وتنعله ‏"‏ ‏.‏

الثاني‏:‏ عجب إنكار، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏(‏بل عجبت ويسخرون‏)‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 12‏]‏، والعجب في كلام الإمام أحمد هنا عجب إنكار‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ الإسناد ‏"‏‏.‏ المراد به هنا رجال السند لا نسبة الحديث إلى راويه أي عرفوا صحة الحديث بمعرفة رجاله‏.‏

قوله‏:‏ ‏"‏ يذهبون إلى رأي سفيان ‏"‏‏.‏ أي سفيان الثوري، لأنه صاحب المذهب المشهور وله أتباع لكنهم انقرضوا، فهم يذهبون إلى رأي سفيان وهو من الفقهاء ويتركون ما جاء به الحديث ‏!‏

قوله‏:‏ ‏"‏ والله يقول‏:‏ ‏(‏فليحذر‏)‏ ‏"‏‏.‏ الفاء عاطفة، واللام للأمر، ولهذا سُكِّنَت وجزم الفعل بها، لكن حرك بالكسر، لالتقاء الساكن‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏عن أمره‏)‏‏.‏ الضمير يعود للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، بدليل أول الآية، قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاَ قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذًا فليحذر الذين يخالفون عن أمره‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 63‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ لماذا عدي الفعل ب‏:‏ ‏(‏عن‏)‏ مع أن ‏(‏يخالف‏)‏ يتعدى بنفسه‏؟‏

أجيب‏:‏ أن الفعل ضمن معنى الإعراض، أي‏:‏ يعرضون عن أمره زهدًا فيه وعدم مبالاة به‏.‏

و ‏(‏أمره‏)‏ واحد الأوامر لأمره وليس واحد الأمور، لأن الأمر هو الذي يخالف فيه، وهو مفرد مضاف، فيعم جميع الأوامر‏.‏

‏(‏فتنة‏)‏‏:‏ الفتنة فسرها الإمام أحمد بالشرك، وعلى هذا يكون الوعد بأحد أمرين‏:‏ إما الشرك، وإما العذاب الأليم‏.‏